الانسحاب الأمريكي من العراق.

يأتي القرار الأمريكي بالانسحاب من العراق تماشياً مع الإستراتيجية الأميريكية التي تحاول تلميع صورة الولايات المتحدة لدى الرأي العام مع أنطلاقة المفاوضات بين الفلسطنيين والكيان الصهيوني .

الإستراتيجية الجديدة تقضي بتنفيذ إنسحابات على الأرض، ولكن باحلال قوة أخرى لا تقل عن القوات النظامية حيث تشير التقارير إلى أن حجم الشركات الأمنية الخاصة الآن فى العراق بات أكثر من أي وقت مضى ،حيث تؤكد التقارير وجود ما يزيد عن عدد 200 ألف عنصر من الشركات الأمنية و التي تعد المقاول الرئيسي الذي اضطلع بدور هام فى غزو واحتلال العراق بتنسيق تام مع الإدارة الامريكية وتحديدا وزارة الدفاع.
لشركات الأمنية الخاصة تتوفر على إمكانيات هائلة وقد استخدمت على نطاق واسع في مجالات متعددة من الدعم اللوجستي إلى المعلومات والاستخبارات والحراسة والحماية والتدريب وغيرها ، وقد أوكلت لها الإدارة الاميريكية العديد من العمليات السرية ليس أخرها احتلال الفلوجة والكثير من العمليات السرية الاستخبارية والأمنية من ملاحقة العناصر إلى التفجيرات العشوائية التي تحدث من وقت لأخر وذلك في محاولة لخلط الأوراق وتفاقم الصراع العرقي ، وهى ما يطلق عليه مصطلح (العمليات القذرة) وقد ساعدت الشركات الإدارة الاميريكة على حفظ ماء الوجه بارتكابها هذه الأعمال فالإدارة تريدها، ولكن تحجم عن تنفيذها مباشرة لذلك أوكلت لهذه الشركات مهمة تنفيذها لصالحها وبتغطية قانونية تعفي أفرادها من الملاحقة القانونية علما بان جل منتسبي هذه الشركات هم عسكريون سابقون في الجيش الامريكى، ويدير هذه الشركات التي أصبحت تنافس الشركات الكبرى النفطية والصناعية يديرها ضباط سابقون كبار في البنتاغون ونواب وشخصيات بارزة في الكونجرس ومسئولين سابقين ان الانسحاب الذي تنفذه القوات الأمريكية من العراق يمثل انسحابا تكتيكياً وذلك في محاولة لوقف نزيف العمليات التي تصاعدت ضد الجيش الأمريكي والخسارة الكبيرة التي تكبدها في صفوفه.

إن الاهداف الحقيقية لغزو واحتلال العراق ليست بخافية على احد أما الذرائع التي تذرعت بها الإدارة الأمريكية من أسلحة الدمار الشامل والعلاقة المفترضة مع القاعدة لنظام الرئيس السابق صدام حسين بدعوى مكافحة "الإرهاب" لم تكن لتقنع احد.
أسلحة الدمار الشامل التي تحدث عنها المفتشون الدوليون لم يعثروا علي دليل واحد يدعمها بالرغم من السنوات العديدة التي أمضوها في التفتيش قبل وبعد الاحتلال ليؤكدوا في وقت متأخر، أن لا وجود لمثل هذه الأسلحة في العراق .
أما مسالة ( الإرهاب) والعلاقة مع القاعدة فقد نشأت بفعل الغزو وهى نتيجة للاحتلال وليست سبباً ، فالآلاف المؤلفة انضمت للقاعدة ـ على افتراض ـ وجودها نكاية في الولايات المتحدة، وكرد فعل طبيعي لمقاومة الاحتلال التحالف مع أياً كان .
إن الحرب الاميريكية على العراق واحتلالها وكذلك التدخل في أفغانستان هو المغذي الرئيسي لتيار التطرف في المنطقة بأسرها وهو عامل جذب لكل الجماعات لتصبح اشد تطرفا ويدفعها دفعا إلى المواجهة على كل الأصعدة .

الفوضى الهدامة:

دأبت السياسة الأمريكية منذ الاحتلال على خلق حالة من الفوضى الهدامة لتفتيت كيان الدولة العراقية ومحوها من على الخارطة السياسية وذلك بخلق أجواء تحضيرية سبقت الغزو وذلك عبر إحياء التناقضات العرقية واذاكائها وتصوير مجموعات بأنها أقلية ومضطهدة وتأليب فئة على أخرى وإذا أضفنا إليها قرارات مثل حل الجيش العراقي وكافة أجهزة الدولة التي اتخذها الحاكم (بول بريمر) نلمس بوضوح الهدف والغاية المتوخاة من كل ذلك.
وقد ساعدت الإدارة الأمريكية على تأليب كل دول الجوار وذلك عبر ما يمكن تسميته (عبوات الاحتلال الناسفة) وذلك بتأجيج الصراع مع دول الجوار عبر علاقات غير مستقرة سواء مع إيران وفقا للتصنيف :ـ شيعي سني أو مع تركيا ـ ملف الأكراد ـ أو العلاقة مع سوريا على خلفية دعم المقاومة ـ مع العلم بأنهما لم يكونا يوما على وفاق( سوريا والعراق ) بالرغم من أن حزب البعث نشأ في سوريا على يد السوري (ميشيل عفلق ) إلا أن الانشقاقات المتتالية أرست حالة من الشك ما لبثت أن تحولت إلى عداء تاريخي منذ ذلك الوقت ، واستمر إلى سقوط الحزب في العراق أثناء الاحتلال .
تقوم ركائز السياسة الأمريكية بدعم كل فريق على حدة وقد حدث ذلك مع العراق أبان حكم الرئيس الأسبق صدام حسين أثناء حربه مع إيران فقد كانت تدعم إيران عبر (إيران كونترا ) وكذلك العراق في نظرية اسماها المنظر الأمريكي زبينجو بريجنسكي الاحتواء المزدوج.

إن المتتبع للملف العراقي منذ الغزو عام 2003 يلمس الحقائق التـالية:

إن الغزو والاحتلال كان بهدف إنهاء دولة قوية يمكن أن تشكل خطرا على ميزان القوة الذي كان دائما لصالح الكيان الصهيوني .
توفر قاعدة علمية لا باس بها للعراق في كل الميادين جعل من الضروري إرجاعها إلى العصر الحجري كما سبق وان وجه نفس التهديد إلى باكستان على لسان نائب وزير الخارجية أثناء الأعداد للتدخل في أفغانستان.
بعد تجربة سبع سنوات من الاحتلال لم تتمكن قوات الاحتلال من تحقيق أهدافها بيسر وسهولة وأصبح من العسير الاستمرار في سياسة التواجد المباشر وذلك للخسائر الفادحة في الأرواح واستنزاف الأموال.
إن الزمرة التي أحضرها الاحتلال وسلمها مقاليد الأمور ليست مؤهلة ولا جديرة بان تدير أي مشروع ولو كان متناهي الصغر، فصورتهم كعملاء لم تقابل من المواطن العراقي أياً كان عرقه سوى بالاحتقار والازدراء ولن يرتقوا أبداً إلى رجال دولة مهما أسبغوا على أنفسهم من الألقاب.
الانسحاب يشكل محاولة أخرى لإنهاء ما تبقى من الكيان العراقي وذلك بترك الفرصة للفئات المتناحرة للانقضاض على بعضها وسوف لن يكون هناك رابح أبدا فالمرتزقة (الشركات الأمنية الخاصة ) جاهزة للاستشارة ولدعم جميع الأطراف لاستكمال مخطط التدمير وبذلك يشكل فائدة إضافية غير مدفوعة الثمن 6.تدمير أسس الحضارة والإرث الإنساني كان هدفاً معلناً عبر السرقة والنهب المنظم للتاريخ من دولة تزعم أنها زعيمة العالم الحر وحامية الديمقراطية .

أن الملفات الشائكة التي تواجه العراقيين اليوم هي أنه لابد أن تكون المواطنة هي الأساس وهى الأولوية المطلقة لبناء الدولة وأن الصراع المدمر لن تكون فيه الغلبة لأحد وباستقرار التاريخ الإنساني على مر العصور لم تستطيع فئة أن تصفى فئة أخرى داخل الوطن الواحد ومهما جرى فان النار دائما تحت الرماد ويخلق بؤر توتر جاهزة تنتظر الفرصة المواتية وحتى أن هزمت فأنها تبقى خامدة تنتظر أول فرصة.
كما أن الانسحاب يعنى وفقا للظروف الحالية انه ترك وراءه من الأسباب ما يجعله مطمئنا إلى عمله هذا ، وما التفجيرات العشوائية التي تقضى على المئات في الأماكن العامة بخافية على احد، إذ لا يعقل أن يسبب تفجير حزام ناسف حول جسد شخص قتل المئات ناهيك عن الأضرار المادية فبحسبة بسيطة للمادة المتفجرة وطريقة حمل الشخص لها يتضح جليا أن ذلك غير ممكن عمليا بل هناك أمور اكبر من ذلك إمعانا في خلط الأوراق.
إن الهدف المعلن منذ إنشاء الكيان الصهيوني هو خرق الوطن العربي في القلب وشطره جغرافيا ، أولاً لمنع قيام أي اندماج جغرافي عربي ، ثم السيطرة على المنطقة والمحافظة على ميزان القوى لصالح العدو الصهيوني وعدم السماح بقيام أية قوى مؤثرة في المنطقة ، والمتتبع لصفقات التسليح لدول المنطقة مع الولايات المتحدة يلاحظ أنها دائما تأخذ بهذا الحساب ، حيث لم تعقد صفقة متطورة مع أية دولة في المنطقة ، بالرغم من العلاقة الجيدة مع الولايات المتحدة إلا بموافقة العدو الصهيوني وبحيث لا تخل بميزان القوى ولا تهدد المصالح الإستراتيجية للكيان حيث يستطيع اللوبي الصهيوني داخل الكونجرس عرقلة وإلغاء أية صفقة قد تحتمل التأثير على التوازن أو تهدد مصالحه.