ربما يكون الجنرال كلاوزفيتز قد سبق عصره بكتاباته المتخصصة والتي تداخلها فلسفة جعلت الكثير ممن جاء بعده وقرأ له يطلق عليه فيلسوف الجنرالات , الجنرال البروسي “كارل فون كلاوزفيتز” يعرف الحرب بأنها شكل من أشكال العنف يستهدف إكراه الخصم

على فرض إرادتنا العنف إذا هو الوسيلة، أما الغاية فهي فرض إرادتنا على الخصم، وليس هناك من حدود للتعبير عن هذا العنف.

وفي الواقع هذا التعريف ينم عن معرفة عميقة بمفهوم الحرب الذي لم يتغير أبداً رغم تغير أدواتها وخططها وتعدد أنواعها

الجنرال البروسي “كارل فون كلاوزفيتز” شخصية تتداخل فيها قدرات كبيرة لفهم الحرب بكل ما يعنيه هذا المصطلح من مفاهيم الدمار والقتال وفرض الإرادات النصر والهزيمة وما بينهما من صراع وقناء كل ذلك ساهم في نشأته ومراحل دراسته وخبرته العملية ولذلك دعونا نتعرف عليه عن قرب : انخرط كلاوزفيتز في سلك العسكرية عندما كان عمره عند 13عاماً- أثناء حملة الراين عام 1793، وبروسيا مملكة ألمانية تكونت من مقاطعة بروسيا بين عامي 1701 و1918 ثم التحق بأكاديمية الحرب في برلين حيث تجلت قدراته العقلية الفذة واسترعى انتباه أستاذه “شارنهوست” أحد أهم مطوري الفكر العسكري البروسي، وفي هذه السنوات أيضاً اتصل “كلاوزفيتز” بفلسفة حملة جينا عام 1806 برتبة نقيب، حيث تم أسره في معركة “أوشتادت” وعقب إطلاق سراحه خدم في هيئة الأركان البروسية بعد إعادة تشكيلها وقد اشترك كلاوزيفيتز في اعادة تشكيل الجيش وتولى التعليم العسكري لأميري بروسيا الذين أصبحا فيما بعد فريدرش فيلهلم الرابع وفيلهلم الأول.

وعندما أُرغِمت بروسيا عام 1811م على التعاون العسكري مع نابليون استعار كلاوزفيتز اصطلاحاً عرفه العصر الحديث، هو “البروسيون الأحرار” واتجه إلى خدمة روسيا القيصرية، واصبح كلاوزفيتز يحمل رتبة عقيد- كولونيل- في الجيش الروسي، عندما بدأت حروب التحرير عام 1813م، وقد عمل في البداية ضابطاً للاتصال في رئاسة الجنرال بلوخر ثم عمل رئيساً لهيئة أركان الحرب الفرقة الروسية البروسية، ولم يعد للجيش البروسي إلا بعد صلح باريس الأول، حيث تم تعيينه رئيساً لهيئة أركان حرب الفيلق الذي اشترك سنة 1815م في معركة “ليني وويفر” ضد فرنسا نابليون وقد كانت المعركتان فاشلتين بالنسبة للبروسيين من الناحية التكتيكية إلا أنهما مهدتا من الناحية الاستراتيجية الطريق أمام النصر الحاسم في معركة “واترلو”.

لما عادت فترة السلم رقى إلى جنرال إلا انه لم يحظ بمنصب قائد قواته لأنه أعتبِر من الجنرلات المتمردين وعُين مديرا إداريا لأكاديمية كريجز برلين، وكان عمله يحرمه من ممارسة أي تأثير في تدريب الضباط البروسيين، فأفاد من ذلك للتفرغ لمشروعه الضخم في الكتابة العسكرية التي تلخص تجارب عصره والتي توجت بكتابه الشهير “عن الحرب” وبقي في منصبه إلى عام 1831م حين تولى منصب رئيس أركان الجيش البروسي المكلَّف بمراقبة التمرُّد البولوني إلا أنه لم يستمر في منصبة إلا لبضعة أيام حيث جاء من يحل محلّه من برلين فخر صريع المرض وتوفى في 1831م.

كان كلاوزفيتز من المفتونين بالطريقة التي غير بها قادة الثورة الفرنسية -وخاصة نابليون- إدارة الحرب من خلال قدرتهم على تحريك الجماهير والحصول على كامل موارد الدولة، ومن ثم إطلاق العنان للحرب على مستوى أكبر مما عُرف من قبل في أوروبا، وقد كان كلاوزفيتز يحظى بتعليم جيد ويولي اهتمامات قوية للفن والتاريخ والعلوم والتعليم، وكان جنديًا محترفًا قضى جزءًا كبيرًا من حياته يحارب نابليون، ولقد وضع التبصر الذي اكتسبه من تجاربه السياسية والعسكرية - بالإضافة إلى فهم قوي للتاريخ الأوروبي - الأساس الذي يقوم عليه الكتاب.

بقي كتاب كلاوزفيتز “عن الحرب” يعد بمثابة المرجع الأساسي لقادة الحرب وتلاميذها طوال القرن التاسع عشر، ذلك لأن هذا الكتاب كان أول دراسة للحرب تمسك إمساكاً تاماً بأهداف الموضوع الذي تتصدى لمعالجته. وتجدر الإشارة إلى تلك الصعوبة التي صيغت بها أفكار الكتاب، نتيجة تأثر كاتبه بالفلسفة كما أسلفنا، الأمر الذي جعل الكتاب هدفاً للهجوم من قبل عدد من الكتاب العسكريين في العالم.

وأن الحرب ودمويتها حتمية لازمة ومهما كان الموقف، فالأمر الذي لا يقبل الجدل هو أن كتابات “كلاوزفيتز” قد تركت أثراً عميقاً في مدرسة الحرب البروسية وقد ظهر هذا الأثر واضحاً في الحرب البروسية الفرنسية عام 1870م، ثم امتد ليؤثر في الحرب العالمية الأولى وحتى الثانية…

جاء كتاب كلاوزفيتز “عن الحرب” في ثمانية أقسام، كلٌ منها سُمِّي كتاباً:

الأول: يعنى بدراسة طبيعة الحرب.

الثاني: يعنى بنظرية الحرب.

الثالث: يناقش فيه الاستراتيجية.

الرابع: يتحدث عن الاشتباك.

الخامس: عن القوات العسكرية.

السادس: عن الدفاع.

السابع: عن الهجوم.

الثامن: عن الخطط الحربية.

مقتطفات من الكتاب:

  • تعريف الحرب: عرَّف كلاوزفيتز الحرب بأنها “شكل من أشكال العنف يستهدف إكراه الخصم على فرض إرادتنا” والعنف إذا هو الوسيلة، أما الغاية فهي فرض إرادتنا على الخصم، وليس هناك من حدود للتعبير عن هذا العنف”.
  • الدماء:  إننا لا نحب أن نسمع عن قادة ينتصرون دون سفك الدماء، وإذا كانت المعارك الدامية مخيفة المنظر فإن هذا يجب أن يكون السبب في أن نقدر الحرب حق قدرها، لا أن نسمح لسيوفنا أن لا تكون حادة، أو أن تصدأ بمرور الأيام بعامل الإنسانية حتى يثب فرد ما، ويقطع بسيفه الحاد أذرعنا عن أجسامنا!!”
  • أصل الصراع:  وإليك هذه المقولة التي تؤكد فهمه لأصل الصراع وأن الداعي للعنف هو الحتمية التاريخية وليست أصل الفكرة: ” ليست المعركة على كل حال مجرد قتل متبادل، وينصب تأثيرها على قتل الشجاعة أكثر من إبادة العدو… ولكن هذا لا يمنع الدم من أن يكون ثمن المعركة”.
  • بين الحرب والسياسة: في مجال العلاقة الجدلية الثابتة بين الحرب والسياسة فأشهر ما قاله
    “إننا نرى أن علينا في كل الظروف اعتبار الحرب أداة سياسية، لا شيئاً مستقلاً بحد ذاته… ونحن نعرف أن العلاقات السياسية بين الحكومات والأمم هي التي تؤدي إلى الحرب، ونتصور أحياناً أن هذه العلاقات تنقطع مع اندلاع الحرب.. غير أننا نؤكد بأن الحرب لا تشكل شيئاً سوى استمرار للسياسة بوسائل أخرى.. وأن الخيوط الرئيسية التي تجري عبر أحداث الحرب والتي ترتبط بها ليست سوى خيوط سياسية تتابع مسارها عبر الحرب حتى تحقيق السلم، وأن تعلق الحرب بالسياسة يجعلها تأخذ بالضرورة صفتها، فإذا كانت السياسة عظيمة قوية، كانت الحرب كذلك، وقد تبلغ في بعض الحالات ذورتها حيث تأخذ شكلها المطلق…”.
  • فلسفة مبادئ الحرب: عالجها كلاوزفيتز بقوله:

إن المبدأ الأول هو إعادة وزن القوى المعادية، وتجزئتها إلى مراكز ثقل عديدة قدر المستطاع، وإلى مركز ثقل واحد إن أمكن، ومن ثم تحديد الهجوم ضد مراكز الثقل هذه إلى عدد من الهجمات الرئيسية العديدة قدر المستطاع. وإلى هجوم واحد رئيسي إن أمكن واخيراً إبقاء كل الهجمات الثانوية تابعة لها بقدر الإمكان. أي أن المبدأ الأول هو التجمع ما أمكن.

والمبدأ الثاني هو العمل بأكبر سرعة ممكنة وعدم السماح للعدو بأية مهلة أو تحول دون سبب وجيه جداً.. فإذا ما تضافر هذان المبدآن فإنهما يتيحان تشابهاً كبيراً مع حكمة نابليون القائلة: “في فن الحرب كما في علم الميكانيك يعتبر عامل الزمن هو أكبر العناصر بين الوزن والقوة”.

أهداف الحرب: ومن ثم فقد صاغ كلاوزفيتز أهداف الحرب المتسلسلة بقوله:

  1. قهر الجيش المعادي وتدميره.
  2. الاستيلاء على موارد العدو المادية.
  3. كسب الرأي العام.

ولتحقيق الهدف الأول يوجه القائد دوماً عمليته الرئيسية ضد الجيش الرئيسي للعدو، لذي ينبغي أن يُهزم قبل تحقيق الهدفين الآخرين، وللاستيلاء على موارد العدو يوجه القائد عملياته إلى النقاط التي تتركز فيها هذه الموارد: (العواصم والمستودعات والمواقع المحصنة الكبرى) وهذه المراحل بحد ذاتها عليها نقاش كبير وفيها نَظَر خاصة إذا ما نظرنا إلى واقع المعركة الحديثة، ولعل ما أثاره ليدل هارت حول هذا فيه خير كبير.

وحدد كلاوزفيتز مبادئ الحرب بـ:

  1. المحافظة على الهدف واستمرار التقدم نحوه.
  2. أمن العمل.
  3. الحركية.
  4. استخدام القوة الهجومية.
  5. الاقتصاد بالقوى.
  6. حشد القوى.
  7. المباغتة.

في الحقيقة مقولات كلاوزفيتز واسعة وقد ختم كتابه بقوله المعبر حيث قال:“والرجل الذي يضحي بالممكن من أجل المستحيل ليس سوى رجل أحمق”.

رابط تحميل الكتاب بصيغة pdf :

https://www.do3atalsham.com/books/Policy/on_war.pdf

تقييم المستخدم: 5 / 5

Star ActiveStar ActiveStar ActiveStar ActiveStar Active