لعلّ المرء لا يكون مبالغا إذا اعتبر الوضع الذي آلت إليه مدينة هيروشيما يوم 6 أغسطس 1945 إندثارا من الجغرافيا، بل إنّ الأمر لكذلك لأن الذي حل بهذه المدينة هو بالفعل حالة إندثار بكل ما تحمله هذه العبارة من معنى، وربما يكون هذا التعبير هو أنسب ما يمكن أن يُقال في مدينة أصبحت أثرا بعد عين في غضون دقائق معدودة، وقد آلت إلى حال لم تعد معه كما كانت شاخصا إعتياديا من الشواخص الرابضة على أديم الأرض،

فبدت وكأنها قد زُحزحت عن الإحداثيات لتندرج ضمن لائحة الشواهد التاريخية التي تعكس الملامح الحقيقية لأفاعيل الدمار الشامل.. حدث مشهود يُسطّر نموذجا فريدا لأكبر عملية من عمليات القتل بالجملة والإبادة الجماعية وتحطيم المدن، تتحقق في وقت قياسي وبأعنف الأشكال وأشدّها وحشية وترويعا على الإطلاق. فالقلم قد يقف عاجزا عن تغطية الحدث وكذلك الحال بالنسبة لأحدث وسائل التوثيق والتصوير الرقمية، على افتراض وجودها في ذلك الوقت. فحجم الكارثة أعمق من إمكانية الإلمام بالملابسات، والمفاجأة كانت من الجسامة بما يكفي لإصابة الجميع بالذهول. لقد شكل بامتياز ذلك اليوم العصيب منعطفا خطيرا في تاريخ آلة الحرب وفي قدرة ما يمكن لها أن تخلفه من تدمير ساحق لا يُبقي ولا يذر. لا غرابة ما دام الأمر مرتبطا بالسلاح النووي الذي ما من شيء سواه يمكن أن يخلّف هكذا دمارا بالغا. وليس عجبا أن يفعل هذا المارد الرهيب فعلته تلك بهيروشيما، في حين أنه لم يكن بغافل عن مدينة ناجازاكي، إذ كانت هي الأخرى حاضرة في قائمة إستهدافه، فتعرّضت للقصف ولم تكن أحسن حظا ولا أقل تعاسة حين تجرّعت بدورها كأس الفاجعة بعد شقيقتها بثلاثة أيام فقط. وفي خضم ما انتابهما من بالغ الأسى، لم يكن بوسع المدينتين المنكوبتين حتى تبادل واجب العزاء وقد انعدمت في كلتيهما وسائل التخاطب تحت الرّكام ووسط اللهيب، وهما تكابدان حشرجات الموت الرهيب وتلفظان على إيقاع الكارثة آخر الأنفاس.

اليوم المشهود

يوم هيروشيما وشقيقتها ناجازاكي لم يكن من الأيام الإعتيادية، بل كان يوما منقطع النظير في ملامحه وخصائصه وتداعياته. ظل محفورا في الذاكرة البشرية كما ظل راسخا في ذهن شاهد العيان الذي، رغم شيخوخته، لم تخنه الذاكرة حتى في أصغر التفاصيل المرتبطة بذلك اليوم العصيب، وهو يروي الواقعة بعد عقود من حدوثها، وقد استهل حديثه قائلا: أتذكر هيروشيما!
لم يكن مؤرّخا ولا صحفيّا، وإنما أسير حرب من ضبّاط الصف الإنجليز الذين أسّرهم الجيش الياباني، فظل يعمل في أحواض مراسي السفن في هيروشيما. عاش أهوال ذلك اليوم المشهود في هذه المدينة التي استخدمت ضدّها أول قنبلة ذرية في التاريخ. لقد نجا هذا الرجل بأعجوبة ضمن القلائل الذين كتبت لهم النجاة في ذلك اليوم.
قال: سمعت الباب يُفتح بعنف وقد ظهر الحارس المناوب صارخا: هيّا انهضوا بسرعة وهو يسير بخُطى سريعة داخل قاطع المنام ضاربا بعصاه الأسرّة الخشبية التي كان عددها ثمانين . وكانت الساعة آنئذ تشير إلى السادسة صباحا.. إستيقظت متثاقلا لأستقبل عناء يوم جديد كأسير حرب لليابانيين، بعدما مضى على أسري من الجزيرة الهادئة " تيمور" ثلاثة أعوام ونصف، حيث كنت رقيبا على إحدى بطاريات الدفاع الجوي.. نهضت من فراشي فرتّبت مرقدي الذي كان عبارة عن ألواح من الخشب مفروشة بحصير.. على هذا المنوال كنا نستقبل كل يوم. وكنا نمتعض من أسلوب المعاملة، فضلا عن معاناتنا من ظروف الأسر والحالة المعيشية المتردّية التي كنا نحياها.. كانت الشمس قد أشرقت خلف التلال المحيطة بالمعسكر.. وكان هواء الصباح منعشا.. ويأتي آمر المعسكر من الإداراة لأخذ التمام الصباحي ولتحية العلم، حيث يتراصف الأسرى من أمريكان وأستراليين وإنجليز وهنود وماليزيين وغيرهم في طوابير متناسقة عند الجمع الصباحي.. كانت وجبة الإفطار مكوّنة من أرز بني اللون مع حُبيْبات من فول الصويا وفجل وقطع من السردين المجفف. في ذلك اليوم ارتدينا كالعادة بدل الشُّغل، وكانت كل شاحنة تقل عشرين أسيرا مع حارسين اثنين إلى حضائر الأشغال الشاقة، للعمل إما في منجم للفحم أو في مصهر للحديد والصلب أو في حقل زراعي أو في حضيرة لتفريغ وشحن البضائع في الميناء.. بعد مسافة عشرين ميلا تقريباً توقفت شاحنتنا لتنزل مجموعة العمل المكلفة بتفريغ ونقل السلع، ثم واصلت بنا السير إلى حيث أحواض هيروشيما للسفن على مقربة من دلتا نهر "أوتا". قفزت من ظهر الشاحنة مع زملائي، وقد أشار مشرف العمال الياباني إلى حاوية ستقوم مجموعتنا المكوّنة من ثمانية أشخاص بتفريغها ونقل ما تحويه من الأكياس المليئة بالسكر إلى مخزن مجاور.. بعد ذلك نزلت إلى عنبر السفينة المُظلم صحبة ثلاثة من الزملاء وهم من الأسرى الأستراليين وكنت الإنجليزي الوحيد بينهم.. وكان في قاع السفينة بصيص من النور ينبعث من مصباح كهربائي يتدلّى من السقف.. وكانت رقعة زرقاء من السماء تتراءى من خلال فتحة صغيرة على ارتفاع ثلاثين قدماً تقريبا في سقف السفينة.. ما إن نزلنا إلى السفينة حتى بدأنا نتعامل مع الأكياس الثقيلة، إلى أن حان موعد الإستراحة المقرّرة لنا، حينها أخذنا نتسلق السلّم إلى الأعلى طمعا في التمتّع بدقائق من الراحة نستنشق خلالها بعض الهواء النقي، غير أن الحارس أبى في تلك اللحظة إلا أن يحرمنا من هذه المُتعة المتواضعة وذلك حينما أطلّ علينا من الأعلى وأمرنا بالمزيد من الشغل، وعندما ذكّرناه بموعد الاستراحة هدّدنا، فلم يكن أمامنا حينئذ سوى الإذعان للأمر والرجوع إلى قاع السفينة لمواصلة العمل..

اللحظة الرهيبة

بطبيعة الحال لم نكن حينها نعلم ماذا ستأتي به الدقائق المقبلة، ولا كيف سيُلقي هذا الإحتجاز القسري بظلاله الكثيفة على مصائرنا، إذ لم نكن ندرك أن مكوثنا في قاع السفينة في تلك اللحظات سيكون الخيط الرفيع الذي سيُفصلنا عن الموت ليُبقينا في خانة الأحياء. وإزاء هذا الجهل كانت مشاعر الإمتعاض تغمرنا ما جعلنا نتطرّق فيما بيننا إلى التعبير عن سخطنا من الحارس الذي منعنا من الصعود إلى أعلى السفينة بنيّة حرماننا من الإستراحة، في حين أنه كان سببا في نجاتنا من حيث لا يعلم. وفيما كنا متمادين في الإعراب عن استيائنا إجمالا من أسلوب المعاملة الفظة وعما ينتابنا من مشاعر الإنهزام النفسي وأحاسيس القهر والإحباط، فجأة انبعث ضوء ساطع مجهول المصدر وملأ أرجاء المكان.. ثم دوّى انفجار رهيب هزّ الدنيا هزّة عنيفة، تراجعنا على إثر ذلك إلى الخلف وانبطحنا أرضا. في تلك الأثناء ظلت السفينة تهتزّ بشدة كما لو أنها قد فقدت ثقلها وتماسكها، ثم غاصت في الماء وارتفعت وقد انقذفت بشدة إلى أن ارتطمت برصيف الميناء، فيما أخذت كميات هائلة من القطع المعدنية الصدئة تنهال علينا.. سمعنا صوت رجّة مدوّية في الخارج وظل صداها يتزايد.. إنطفأ النور وأصبحنا في ظلام دامس، وقد تصدّعت آذاننا بفعل الصوت الرهيب حتى أُصبنا بصمم مؤقت.. تدريجيا بدأ الإضطراب يهدأ ثم استقرت السفينة.. نظرنا إلى الأعلى من خلال فتحة في السقف فرأينا السماء قد تغير لونها إلى رمادي.. وأصبح بوسعي في تلك الأثناء سماع أصوات زملائي وهم يصرخون: ما الذي جرى؟ أقنبلة في الأحواض؟ الكل في حيرة من أمرهم يتساءلون! إذ ليس من المعقول أن يكون الأمر اعتياديا! كنا نصرخ وأيدينا على آذاننا، ولكن هيهات! لا حياة لمن تنادي، فلا أحد يستطيع سماع أصواتنا.. وفيما كانت درجة الحرارة داخل السفينة لاتُطاق، قررنا عبثا الصعود إلى الأعلى، غير أن السّلّم كان من الحرارة بحيث لا يُمكن الإمساك به، الشيء الذي جعلنا نبقى في مكاننا حيث درجة الحرارة عالية.. في هذه الأثناء لاحظنا وقوع قطرات سوداء تتساقط من خلال الفتحة العلوية، وقد علمنا أنها عبارة عن تساقطات متفرقة على هيئة أمطار مكوّنة من مزيج من الأبخرة والغبار.. ياله من يوم عبوس قمطرير! غيّرنا أماكننا حتى نتجنّب قطرات المطر.. كان هناك بالخارج سكون غير اعتيادي أشبه ما يكون بسكون المقابر.. صرخنا ثانية لكن ما من مجيب إلا صدى أصواتنا.. كنا في حالة ذهول والكآبة تعلو وجوهنا.. بعد انتظار طويل سمعنا وقع خطوات على سطح السفينة وإذا بوجه مقنع يطل علينا قائلا باللغة اليابانية: ألزموا مكانكم، خطر مروّع.. نار.. قتلى كثيرون.. انتظروا! ثم انصرف ليعود بعد وقت قصير حاملا معه علبا تحوي أرزا مغطى بأعشاب البحر. فجلسنا نأكل.. فيما توالت أصوات وقع الخطوات على ظهر السفينة.

مشاهد فظيعة

وجدنا أنفسنا أمام ثلاثة أشخاص مقنّعين، بادرنا أحدهم بالحديث بلهجة أمريكية معرّفا نفسه على أنه طبيب، وأخبرنا بأن مرافقيْه ممرضان يابانيان.. سلمنا أربعة معاطف واقية وأشار إلينا بارتدائها.. وعندما صعدنا إلى الأعلى رأينا ظهر السفينة وقد تحطم الجزء الأكبر منه.. أما المدينة فقد انهارت فوق رؤوس ساكنيها وأبيدت أغلب معالمها؛ أكوام عظيمة من الحجارة والحديد والألواح الخشبية والقرميد والأعمدة كانت قبل قليل أحياء سكنية وعمارات ومصانع ومستشفيات ومدارس ومعابد ومرافق مختلفة.. ألسنة هائلة من اللهب المتصاعد تأتي على كل شيء فتجعله رماداً وهباء منثوراً.. فيما كانت أعمدة الدخان تعانق السماء. شاهدنا عشرات من الجثث تطفو على سطح مياه النهر وأشلاء بشرية يدفعها التيار ليلقيها في البحر.. الحقيقة المُرّة التي أخبرنا بها الرائد الطبيب الأميركي، الذي كان يعمل في المستشفى القريب وهو أحد الذين تم أسرهم في الفيلبين من قبل اليابانيين، أخبرنا أن ما شاهدناه اليوم كان نتيجة قنبلة ذرية ألقيت على المدينة.. كانت في تلك اللحظات رائحة اللحم البشري المحترق والدخان الكثيف تغمر أنوفنا.. وشاهدنا جثة الحارس الياباني، الذي احتجزنا أسفل السفينة وأمرنا باستئناف العمل، شاهدناها ملقاة وقد شوهتها النيران.. أما سقف المخزن فقد انهار تماما، غير أن الساعة الحائطية لم يمسسها سوء وإنما توقفت عقاربها على الثامنة والربع.. وبعد قليل شاهدنا عمال الدفاع المدني يحاولون جمع ونقل الجثث المنتشرة في كل مكان وتجميع الأشلاء المبعثرة والتي كانت غالبا ما تنزلق من بين أيديهم.. ثم توجهنا نحو المخزن المنهار، لنجد جثثاً أخرى لزملائنا الأسرى، كان اثنان منهم مُلقييْن على الأرض والثالث مستنداً إلى الحائط ووجهه مشوّه وتُغطّيه طبقة شمعية لزجة.. إقتربوا قال الرائد، وأكد أننا من القلائل الباقين على قيد الحياة في هذه المنطقة. وأضاف: هيا لنذهب لقد شاهدنا اليوم أكثر مما نستطيع تحمّله. لقد أخذ منا التعب والإنهاك كل مأخذ، وكنا نخشى في تلك الأثناء من نقمة اليابانيين، غير أنّ المعاطف التي نرتديها قد ساعدت كثيراً على إخفاء هويتنا.. في حين أخذ الرائد يُحدّثنا عن الأعجوبة التي استطاع بها مغادرة المستشفى الذي يعمل فيه ساعة الإنهيار وكيف استطاع تدبير أمره والخروج سالما للإنضمام لعمليات الإنقاذ.. في ضواحي المدينة مررنا بميدان قد تحوّل إلى محطة تفتيش وإسعاف صحي وكان مزدحما بالناس، كثير منهم محروقون وينزفون دماً، وآخرون جلودهم ممزّقة وتتدلى من أجسامهم العارية وعظامهم سافرة.. أناس قبل قليل كانوا في أحسن تقويم وبكامل قواهم ولياقتهم البدنية، وعلى حين غرّة تحوّلوا إلى عكس ذلك فانعدمت فيهم أدنى مُقوّمات العافية، واعتراهم الوهن وأصبحوا تائهين، عبثا يتلمّسون الطريق وقد فقد معظمهم البصر والسمع. وفي ذات السياق شوهد رجل مشوّه الوجه يحمل عينه على كفه وهو يترنّح ولا يدري إلى أين يتّجه.. طوابير من الأشباح المنتشرة على هيئة هياكل بشرية تتحرّك ببطء شديد. وكتل لحمية مهترئة وأشلاء ممزّقة لجموع من الأهالي أصابها الهلاك فأصبحت كالعصف المأكول.. رجال ونساء وأطفال من مختلف الأعمار يستغيثون ويحاولون الصراخ من شدة الآلام وفرط الأوجاع، لكنهم في الغالب لا يقوون على ذلك.. والكثير من كل هؤلاء مُلقون على الأرض وهم في الرمق الأخير وبين مُغْمى عليه وفاقد للحياة لتّوه، وبين من ينتظر وهو في حالة احتضار ويعاني سكرات الموت المحتوم.. إنه الهلاك بعينه، لم يعد ثمّة ما يذكر بالحياة، وما من أحد هنا إلا ويفكر في المنيّة، إذ لا شيء يُخيّم في حطام المدينة غير الموت والخراب ولا شيء سوى ذلك غير العذاب والأسى البؤس.

الإنهيار العظيم

كان الفزع والهلع يملآن وجوه المصابين والمسعفين على حد سواء.. فيما كان اليأس والإحباط سمة عامة بادية على كل الوجوه. مشاهد رهيبة مثيرة للشفقة وتبعث على الحزن العميق على نحو جعلت القلب يعتصر لها ألما. كانت جهود أطقم الدفاع المدني أوهن من أن تتعامل بفعالية مع الموقف من هول الكارثة.. انظروا إلى المعاناة المفزغة والويلات، قال الرائد هل كان هذا ضروريا؟ إنه أمر غير مبرر على الإطلاق. لماذا فعلوا هذا.. لماذا؟ قادنا الرائد إلى نقطة تجمّع وسلمنا إلى أحد الضباط اليابانيين الذي أشرف على إركابنا في إحدى الشاحنات الراسية هناك. وهكذا ودّعنا الرائد في لحظة كنا عاجزين فيها عن التوجّه إليه من صميم قلوبنا بوافر عبارات الشكر والتقدير على ما أسداه لنا من حسن مساعدة.. ركب معنا أحد الجنود اليابانيين وتحركت الشاحنة.. خراب لا نهاية له ودمار منقطع النظير.. حال العمارات وأغلب المباني لا يختلف عن حال العباد فهي إما أن تكون قد انهارت تماما أو أن تكون في طور التساقط أو في وضع آئل للسقوط. فالمصيبة لم تفرّق بين البشر والحجر، حيث الجموع الغفيرة التي كانت داخل المباني المنهارة قد أصبحت لتوّها تحت الأنقاض، وتبعا لذلك كان مصير الضحايا يتراوح بين من سحقه الركام ومن كُتمت أنفاسه اختناقا، أما أنين المصابين فقد ظل مكتوما تحت الأعماق، والحشرجات تمتص صداها الحمم أسفل الحُطام، أما الموت المحتوم فهو نهاية المطاف في كل الأحوال.. وتسير الشاحنة وهي تهتزّ متمايلة لتلتمس طريقا سهلا بعيداً عن المدينة التي أصبح أغلبها هباءً منثوراً.. وفي الطريق مررنا بكنيسة واجهتها آئلة للسقوط وبابها يحترق من غير لهب.. وعندما صعدنا إلى التلال كانت الأشجار تحترق والكثير منها متفحّم ومقتلع من جذوره.. بساتين تنبعث منها ألسنة اللهب ويغمرها دخان كثيف، وحقول زراعية امتدت إليها النيران فجعلتها كالصّريم.. أما الخيول وسائر الحيوانات فلم تكن بمنأى عن طائلة الكارثة، فالكثير منها نافق والآخر لا زال يكابد آلام الحريق، وقد خرجت بعض القطعان لتوّها من اسطبلاتها وحضائرها مذعورة، وهي فارّة من الجحيم الذي ما فتئ يلاحقها، ومن اللهب الذي يلتهم أوصالها فينهار صمودها لترتمي على الأرض عديمة القوى مستسلمة للمصير.

المغادرة المتسارعة

بعد الكثير من العناء وصلنا إلى المعسكر، وكان سياجه قد استوى مع الأرض أما بعض مبانيه فقد تحطمت.. لم يصدّقنا أحد من بين الذين صادف أن التقينا بهم عندما أخبرناهم بأن هذا الدمار المنقطع النظير قد سببته قنبلة، إذ هناك شبه إصرار من الجميع على أن الأمر لا يمكن أن يكون إلا شيئا خارقا من نوع آخر، ولا يمكن له أن يكون مرتبطا بمجرد قنبلة أو ما شابه. فلا يخفى على أحد أن القنابل تحدث من الدمار الشيء الكثير، غير أن الآثار الراهنة قد تخطّى حجمها حدود كل التصوّرات. توجهنا نحو صهريج الماء ورُحنا نغتسل مراراً وتكراراً لنتخلص مما علق بأجسادنا من أغبرة وروائح. ثم انطرحنا منهوكي القوى على سرائرنا. وبعد قليل جاء طبيب وتفحّصنا في حين أن صحتنا تبدو وكأنها لاتزال جيدة. ولم يتبقّ في تعداد الأسرى عند الجمع المسائي في ذلك اليوم سوى أربعة أشخاص؛ أنا وزملائي الأستراليين الثلاث. تجمّعنا في الساحة وحضر آمر المعسكر الذي انحنينا له كالعادة، فردّ التحيّة وأمرنا بالجلوس أرضا، وبدأ يتكلم باللغة الإنجليزية: اليوم أسقطت أمريكا قنبلة رهيبة على هيروشيما، وارتفعت نبراتُ صوته عندما أخذ يتحدث عن الخسائر الجسيمة والدمار الناجم عن ذلك، مضيفا: أن أمريكا لم تكن لتسقط قنبلة كهذه لو أن اليابان تمتلك قنبلة مماثلة، ولو أن اليابان تمتلك قنبلة كبيرة كهذه فإنها ستسقطها على سان فرانسيسكو، أعاد ذلك مراراً ذاكرا مدنا أمريكية عديدة كان يعرفها. وكنا نستمع إليه في صمت وخشية محدّقين في الحارس وهو يمتشق بندقيته الآلية.. ثم صرخ أنه يجب علينا مغادرة المكان بأقصى سرعة وأننا سنستقل القطار المتجّه إلى "نياجاتا " بالساحل الشمالي الغربي من "هنشو". لما حان موعد ركوب الشاحنة التي ستقلنا إلي محطة القطار، أسرعْتُ إلى قاطع المنام وأخذت أغراضي الشخصية ولم أنس مفكرتي اليومية مع صورة تذكارية كنت أعتز بها كثيرا، ثم التحقت بالمجتمعين أمام الشاحنة وكان الظلام قد بدأ يخيّم عندما انطلقنا. في ذلك الحين شعرت وزملائي ببصيص الأمل الذي قد يبشر بالخطوة الأولى إلى رحلتنا نحو الإنعتاق وبداية النهاية لأمد معاناتنا من وطأة الأسر البغيض، في حين كانت مشاعر الأسف العميق تساورنا لاقتران تباشير إطلاق سراحنا بهكذا مناسبة مأساوية..

الحقائق العددية

ليس أفضل من لغة الأرقام دقّة في الكشف على فصول المأساة، وقد يتسنّى للمرء من واقع الحقائق العددية إدراك حجم الكارثة؛ فعدد الأشخاص الذين لقوا مصرعهم على الفور في هيروشيما بلغ 69 ألفا، فيما تجاوز عدد المصابين والجرحى هذا الرقم، ثم مات أغلبهم متأثرين بالجروح وبالتسمم الإشعاعي، في حصيلة إجمالية قُدرت ب140 ألف شخص فقدوا الحياة. كما أدى الإنفجار إلى تدمير بالغ وإلى اندلاع حرائق في مساحة قطرها ميلان ونصف، فيما بلغت نسبة التدمير والتصدّع في مباني ومنشآت المدينة 90%. أما في ناجازاكي، فقد لقي 40 ألف شخص مصرعهم كحصيلة أوّلية، علاوة على 25 ألف مصاب، فيما كانت نسبة المباني التي دمّرت في المدينة بموجة الصدمة وبفعل الحرائق 40% من المساحة الإجمالية.
إلى ذلك فإن تبعات المأساة لم تتوقّف عند الحدود الآنفة الذكر، بل تجاوزتها إلى أبعاد أخرى على درجة كبيرة من الخطورة المفرطة؛ فالإشعاع النافذ كانت تداعياته الكارثية قد طالت جموعا ممّن بقوا على قيد الحياة، مؤثرة على صحتهم، ملقيّة بظلالها الفتّاكة حتى على الأجيال المتعاقبة. وهي تبعات طويلة الأمد شكلت أسبابا للعديد من الأمراض السرطانية والتشوّهات الجينية.

الخاتمـة

لم تكن المشاهد الآنفة الذكر سوى لمحات عابرة أمكن تسطيرها بعجالة، وقد سلطت الضوء على جوانب من الوضع الذي آلت إليه هيروشيما على خلفية الواقعة. هذه المشاهد لم تكن من التفصيل بما يكفي لتضع القارئ على تجليّات الوصف الحقيقي لقمّة المأساة في تلك المدينة المنكوبة، غداة تعرّضها للقصف الذري. فجرّاء الواقع الذي استحالت إليه من حيث الدمار البالغ الذي لحق بها، ساد اعتقاد أن هذه المدينة سوف لن تقوم لها قائمة تُذكر وسيغدو من المتعذر عليها أن تحظى بمستقبل زاهر، إلا أن الأيام أثبتت العكس حيث استطاعت هيروشيما أن تترك جانبا الروح الإنهزامية وأن تعقد العزم على التخلص من مخلّفات المصيبة ومن قيود اليأس والإحباط لكي تنهض من جديد، لذلك فقد انطلقت فيها أنشطة إعادة البناء وتواصلت دون انقطاع على مدى فترات متلاحقة من الزمن، حتى تمكنت بعد مرور سنوات على الحادثة من استعادة موقعها كمدينة متحضرة وفقا لأعلى المواصفات. وقد نالت حظا وافرا من التنمية الإقتصادية والصناعية ومن التطوير العمراني والتقدّم التكنولوجي وهي تحتل الآن مكانا مرموقا بين المدن اليابانية الكبرى، عاقدة العزم على الدفع باتجاه تخليص البشرية من ويلات السلاح النووي وذلك انطلاقا من رسالتها الحضارية كمدينة لثقافة السلام العالمي.

 

Star InactiveStar InactiveStar InactiveStar InactiveStar Inactive